فصل: ذكر شيء من أخبار نوح عليه السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ذكر شيء من أخبار نوح عليه السلام

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّهُ كَاْنَ عَبْدَاً شَكُوْرَاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏

قيل إنه كان يحمد الله على طعامه، وشرابه، ولباسه، وشأنه كله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 135‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث أبي أسامة‏.‏

والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية، والقولية والعملية، فإن الشكر يكون بهذا وبهذا، كما قال الشاعر‏:‏

أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا

 صومه عليه السلام

وقال ابن ماجه، باب صيام نوح عليه السلام‏:‏ حدثنا سهل بن أبي سهل، حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي فراس أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏صام نوح الدهر إلا يوم عيد الفطر، ويوم الأضحى‏}‏ هكذا رواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن لهيعة بإسناده ولفظه‏.‏

وقد قال الطبراني‏:‏ حدثنا أبو الزنباع روح بن فرج، حدثنا عمرو بن خالد الحراني، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قتادة، عن يزيد بن رباح أبي فراس أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر‏)‏‏)‏‏.‏

 حجه عليه السلام

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا أبي عن زمعة هو ابن أبي صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتى وادي عسفان قال‏:‏

‏(‏‏(‏يا أبا بكر أي واد هذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هذا وادي عسفان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد مر بهذا الوادي نوح، وهود، وإبراهيم، على بكرات لهم حمر خطمهم الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يحجون البيت العتيق‏)‏‏)‏‏.‏

فيه غرابة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 136‏)‏

 وصيته لولده

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن الصقعب بن زهير، عن زيد بن أسلم قال حماد‏:‏ أظنه عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيحان مزرورة بالديباج، فقال‏:‏ ألا إن صاحبكم هذا قد وضع كل فارس بن فارس، أو قال‏:‏ يريد أن يضع كل فارس بن فارس، ورفع كل راع بن راع‏.‏

قال‏:‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجامع جبته وقال‏:‏

‏(‏‏(‏لا أرى عليك لباس من لا يعقل، ثم قال‏:‏ إن نبي الله نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه‏:‏

إني قاص عليك الوصية‏:‏ آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين، آمرك بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لاإله إلا إله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله‏.‏

ولو أن السماوات السبع، والأرضين السبع كن حلقة مبهمة فضمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده، فإن بها صلات كل شيء، وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكبر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت - أو قيل - يا رسول الله هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر، أن يكون لأحدنا نعلان حسنان لهما شراكان حسنان‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هو أن يكون لأحدنا حلة يلبسها‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هو أن يكون لأحدنا دابة يركبها‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هو أن يكون لأحدنا أصحاب يجلسون إليه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ - أو قيل - يا رسول الله فما الكبر‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سفه الحق، وغمض الناس‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه‏.‏

ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان في وصية نوح لابنه‏:‏ أوصيك بخصلتين، وأنهاك عن خصلتين‏)‏‏)‏ فذكر نحوه‏.‏

وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد، عن أبي معاوية الضرير، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

والظاهر أنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما رواه أحمد، والطبراني، والله أعلم‏.‏

ويزعم أهل الكتاب أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة، كان عمره ستمائة سنة‏.‏ وقدمنا عن ابن عباس مثله، وزاد وعاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة‏.‏ وفي هذا القول نظر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 137‏)‏

ثم إن لم يمكن الجمع بينه وبين دلالة القرآن، فهو خطأ محض‏.‏ فإن القرآن يقتضي أن نوحاً مكث في قومه بعد البعثة، وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاماً‏.‏ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون‏.‏

ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك، فإن كان ما ذكر محفوظاً عن ابن عباس من أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة‏.‏

وأما قبره عليه السلام‏:‏ فروى ابن جرير، والأزرقي، عن عبد الرحمن بن سابط، أو غيره من التابعين مرسلاً أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام، وهذا أقوى وأثبت من الذكر الذي يذكره كثير من المتأخرين من أنه ببلدة بالبقاع، تعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكره، والله أعلم‏.‏

 قصة هود عليه السلام

وهو هود بن شالخ بن أرفحشذ بن سام بن نوح عليه السلام‏.‏

ويقال إن هوداً هو‏:‏ عابر بن شالخ بن أرفحشذ بن سام بن نوح‏.‏

ويقال هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، ذكره ابن جرير وكان من قبيلة يقال لهم‏:‏ عاد بن عوص بن سام بن نوح، وكانوا عرباً يسكنون الأحفاف، وهي جبال الرمل، وكانت باليمن من عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها‏:‏ الشحر، واسم واديهم مغيث‏.‏

وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6-7‏]‏ أي‏:‏ عاد إرم وهم عاد الأولى‏.‏

وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه‏.‏

وأما عاد الأولى‏:‏ فهم عاد ‏{‏إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 7-8‏]‏ أي‏:‏ مثل القبيلة‏.‏ وقيل مثل العمد، والصحيح الأول كما بيناه في التفسير‏.‏

ومن زعم أن إرم مدينة تدور في الأرض، فتارة في الشام، وتارة في اليمن، وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 138‏)‏

وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه‏:‏ منهم أربعة من العرب‏:‏ هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر‏.‏

ويقال‏:‏ إن هوداً عليه السلام أول من تكلم بالعربية‏.‏

وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها‏.‏

وقال غيره‏:‏ أول من تكلم بها نوح‏.‏

وقيل‏:‏ آدم وهو الأشبه قبل غير ذلك، والله أعلم‏.‏

ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام‏:‏ العرب العاربة وهم قبائل كثيرة منهم‏:‏ عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجديس، وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم‏.‏

وأما العرب المستعربة‏:‏ فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل‏.‏

وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏ ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة، والبيان‏.‏ وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والمقصود أن عاداً وهم عاد الأولى كانوا من عبد الأصنام بعد الطوفان، وكان أصنامهم ثلاثة‏:‏ صدا، وصمودا، وهرا‏.‏ فبعث الله فيهم أخاهم هوداً عليه السلام فدعاهم إلى الله كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف‏:‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 65-72‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 139‏)‏

وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود‏:‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 50 -60‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون بعد قصة قوم نوح‏:‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏31-41‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضاً‏:‏

{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏123-140‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة فصلت‏:‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ‏}‏ ‏[‏15-16‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الأحقاف‏:‏ ‏{‏

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏21-25‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 140‏)‏

وقال تعالى في الذاريات‏:‏ ‏{‏وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41-42‏]‏‏.‏

وقال تعالى في النجم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50-55‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة اقتربت‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 18-22‏]‏‏.‏

وقال في الحاقة‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ‏}‏ ‏[‏6-8‏]‏‏.‏

وقال في سورة الفجر‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ ‏[‏6-14‏]‏‏.‏

وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها، من كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة، وإبراهيم، والفرقان، والعنكبوت، وفي سورة ‏(‏ص‏)‏، وفي سورة ‏(‏ق‏)‏، ولنذكر مضمون القصة مجموعاً من هذه السياقات مع ما يضاف إلى ذلك من الأخبار، وقد قدمنا أنهم أول الأمم عبدوا الأصنام بعد الطوفان، وذلك بين في قوله لهم‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏ أي‏:‏ جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة، والشدة، والبطش‏.‏

وقال في المؤمنون‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 31‏]‏ وهم قوم هود على الصحيح‏.‏

وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 41‏]‏ قالوا‏:‏ وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة‏.‏

{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ‏}‏ وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم‏.‏ كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الأيكة، فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات، ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 141‏)‏

والمقصود أن عاداً كانوا عرباً جفاة كافرين، عتاة متمردين في عبادة الأصنام، فأرسل الله فيهم رجلاً منهم يدعوهم إلى الله، وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذبوه، وخالفوه، وتنقصوه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلما أمرهم بعبادة الله، ورغبهم في طاعته واستغفاره، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة‏.‏

{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 66‏]‏ أي‏:‏ هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك‏.‏

‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 67‏]‏ أي ليس الأمر كما تظنون، ولا ما تعتقدون‏.‏

{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ‏}‏ والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ، وعدم الزيادة فيه، والنقص منه، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة، جامعة مانعة، لا لبس فيها ولا اختلاف، ولا اضطراب‏.‏

وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، لا يبتغي منهم أجراً ولا يطلب منهم جعلاً، بل هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه، وأمره إليه‏.‏

ولهذا ‏{‏يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 51‏]‏ أي ما لكم عقل تميزون به، وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين، الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحاً وأهلك من خالفه من الخلق، وها أنا أدعوكم إليه، ولا أسألكم أجراً عليه، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع‏.‏

ولهذا قال مؤمن يس‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 21-22‏]‏‏.‏

وقال قوم هود له فيما قالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 53 -54‏]‏ يقولون‏:‏ ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق، ما جئت به وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته، ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه، وعندنا إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك، فاعتراك جنون بسبب ذلك‏.‏

وهو قولهم‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54-55‏]‏‏.‏

وهذا تحدٍ منه لهم، وتبرٍ من آلهتهم، وتنقص منه لها، وبيان أنها لا تنفع شيئاً ولا تضر، وأنها جماد حكمها حكمه، وفعلها فعله، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر، وتنفع، وتضر، فها أنا بريء منها، لاعن لها‏.‏

{‏فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ‏}‏ أنتم جميعاً بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه، وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين، فإني لا أبالي بكم، ولا أفكر فيكم، ولا أنظر إليكم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 142‏)‏

{‏إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 56‏]‏ أي‏:‏ أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه، فلست أبالي مخلوقاً سواه، ولست أتوكل إلا عليه، ولا أعبد إلا إياه‏.‏

وهذا وحده برهان قاطع على أن هوداً عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله، لأنهم لم يصلوا إليه بسوء، ولا نالوا منه مكروهاً، فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه‏.‏

وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏

وهكذا قال الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80-83‏]‏‏.‏

{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 33-35‏]‏‏.‏

استبعدوا أن يبعث الله رسولاً بشرياً، وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديماً وحديثاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94-95‏]‏‏.‏

ولهذا قال لهم هود عليه السلام ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 63‏]‏ أي‏:‏ ليس هذا بعجيب، فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 35-39‏]‏‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 143‏)‏

استبعدوا المعاد، وأنكروا قيام الأجساد، بعد صيرورتها تراباً وعظاماً، وقالوا‏:‏ هيهات هيهات‏.‏

أي‏:‏ بعيد بعيد هذا الوعد، إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحي، وما نحن بمبعوثين‏.‏

أي‏:‏ يموت قوم، ويحيى آخرون، وهذا هو اعتقاد الدهرية، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة، أرحام تدفع، وأرض تبلع‏.‏

وأما الدورية‏:‏ فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار، بعد كل سنة وثلاثين ألف سنة، وهذا كله كذب، وكفر، وجهل، وضلال، وأقوال باطلة، وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم، الذين لا يعقلون، ولا يهتدون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وقال لهم فيما وعظهم به‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128-129‏]‏‏.‏

يقول لهم‏:‏ أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيماً هائلاً كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها، لأنه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6-7 -8‏]‏فعاد إرم، هم عاد الأولى، الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام‏.‏

ومن زعم أن إرم مدينة من ذهب وفضة، وهي تتنقل في البلاد، فقد غلط وأخطأ، وقال ما لا دليل عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ‏}‏ قيل‏:‏ هي القصور‏.‏ وقيل‏:‏ بروج الحمام، وقيل‏:‏ مآخذ الماء‏.‏

{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 129‏]‏ أي‏:‏ رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار، أعماراً طويلة‏.‏

{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 130-135‏]‏‏.‏

وقالوا له مما قالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏ أي‏:‏ أجئتنا لنعبد الله وحده، ونخالف آباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه، فإن كنت صادقاً فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال، فإنا لا نؤمن بك، ولا نتبعك، ولا نصدقك‏.‏

كما قالوا‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 136- 138‏]‏‏.‏

أما على قراءة فتح الخاء؛ فالمراد به اختلاق الأولين، أي‏:‏ أن هذا الذي جئت به إلا اختلاق منك، وأخذته من كتب الأولين‏.‏ هكذا فسره غير واحد من الصحابة، والتابعين‏.‏

وأما على قراءة ضم الخاء واللام، فالمراد به الدين، أي‏:‏ أن هذا الدين الذي نحن عليه، إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا، ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا نزال متمسكين به‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 144‏)‏

ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية، قولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}

قال‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 71‏]‏ أي‏:‏ قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له، بعبادة أصنام أنتم نحتموها، وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم‏.‏

‏{‏مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أي‏:‏ لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلاً، ولا برهاناً، وإذا أبيتم قبول الحق، وتماديتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه، أم لا، فانتظروا الأن عذاب الله الواقع بكم، وبأسه الذي لا يرد، ونكاله الذي لا يصد‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 39 - 41‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22 - 25‏]‏‏.‏

وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية، كما تقدم مجملاً ومفصلاً كقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وكقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 58-60‏]‏‏.‏

وكقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 139-140‏]‏‏.‏

وأما تفصيل إهلاكهم، فلما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب، أنهم كانوا ممحلين مسنتين، فطلبوا السقيا فرأوا عارضاً في السماء، وظنوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ من وقوع العذاب‏.‏ وهو قولهم‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ومثلها في الأعراف‏.‏

وقد ذكر المفسرون وغيرهم ههنا الخبر الذي ذكره الإمام محمد بن إسحق بن بشار قال‏:‏ فلما أبو إلا الكفر بالله عز وجل، أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك‏.‏ قال‏:‏ وكان الناس إذاجهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج منه إنما، يطلبونه بحرمه ومكان بيته، وكان معروفاً عند أهل ذلك الزمان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 145‏)‏

وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلاً يقال له‏:‏ معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري‏.‏

قال‏:‏ فبعث عاد وفداً قريباً من سبعين رجلاً ليستقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر، يغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية، وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيى منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا فيعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به فقال‏:‏

ألا يا قيل ويحك فم فهيم * لعل الله يمنحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداً * قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم أياما

وإن الوحش يأتيهم جهارا * ولا يخشى لعادي سهاما

وأنتم ههنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم تماما

فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما

قال فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء، وحمراء، وسوداء‏.‏ ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب‏.‏

فقال‏:‏ اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه‏:‏ اخترت رماداً رمدداً، لا تبقى من عاد أحداً، لا والداً يترك ولا ولداً، إلا جعلته همداً، إلا بني اللودية الهمدا‏.‏ قال‏:‏ وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم‏.‏

قال‏:‏ ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم، هم عاد الآخرة‏.‏ قال‏:‏ وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له‏:‏ المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى‏:‏

{‏بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ أي‏:‏ كل شيء أمرت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها‏:‏ فهد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 146‏)‏

فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا‏:‏ ما رأيت يا فهد‏؟‏

قالت‏:‏ رأيت ريحاً فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها‏.‏

{‏سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً‏}‏، والحسوم‏:‏ الدائمة، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك‏.‏

قال‏:‏ واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود، ويلتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن، فيما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة، وذكر تمام القصة‏.‏

وقد روى الإمام أحمد حديثاً في ‏(‏مسنده‏)‏، يشبه هذه القصة، فقال‏:‏ حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن يزيد البكري، قال‏:‏

خرجت أشكو العلا بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي‏:‏ يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه‏.‏

قال‏:‏ فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ ما شأن الناس‏؟‏ قالوا‏:‏ يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهاً، قال‏:‏ فجلست‏.‏ قال‏:‏ فدخل منزله - أو قال - رحله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل كان بينكم وبين بني تميم شيء‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏ وكانت لنا الدبرة عليهم‏.‏

ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت يا رسول الله‏:‏ إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً فاجعل الدهناء، فإنها كانت لنا‏.‏

قال‏:‏ فحميت العجوز واستفزت، وقالت يا رسول الله‏:‏ فإلى أين تضطر مضرك‏؟‏

قال‏:‏ فقلت إن مثلي ما قال الأول، معزى حملت حتفها، حملت هذه الأمة، ولا أشعر أنها كانت لي خصماً أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد‏.‏

قال‏:‏ هيه، وما وافد عاد، وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه‏.‏

قلت‏:‏ إن عاداً قحطوا، فبعثوا وفداً لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر، ويغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة‏.‏

فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود، فنودي منها اختر، فأومى إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رماداً رمدداً لا تبقى من عاد أحداً‏.‏

قال‏:‏ فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح، إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 147‏)‏

قال‏:‏ أبو وائل وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وفداً لهم، قالوا‏:‏ لا تكن كوافد عاد‏.‏

وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به‏.‏

ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر، عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجه‏.‏

وهكذا أورد هذا الحديث، وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين، كابن جرير وغيره‏.‏

وقد يكون هذا السياق لإهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم، كما سيأتي‏.‏ وعاد الأولى قبل الخليل‏.‏

وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى، لا يشبه كلام المتقدمين‏.‏

وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر‏.‏

وقد قال ابن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من أئمة التابعين‏:‏ هي الباردة والعاتية، الشديدة الهبوب ‏{‏سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏ أي‏:‏ كوامل متتابعات‏.‏ قيل‏:‏ كان أولها الجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ الأربعاء‏.‏

{‏فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ شبههم بأعجاز النخل، التي لا رؤوس لها، وذلك لأن الريح كانت تجيء إلى أحدهم فتحمله، فترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه، فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه عليهم‏.‏

{‏تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 20‏]‏ ومن قال‏:‏ إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء، وتشاءم به لهذا الفهم، فقد أخطأ وخالف القرآن، فإنه قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها، لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشؤومة، وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات أي عليهم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ أي‏:‏ التي لا تنتج خيراً، فإن الريح المفردة لا تنثر سحاباً، ولا تلقح شجراً، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 42‏]‏ أي‏:‏ كالشيء البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور‏)‏‏)‏‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ فالظاهر أن عاداً هذه هي عاد الأولى، فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود، وهم الأولى‏.‏

ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية‏.‏ ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضي الله عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 148‏)‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا‏}‏‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ فإن عاداً لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب، ظنوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب، اعتقدوه رحمة، فإذا هو نقمة، رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ من العذاب‏.‏

ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏ررِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية، الباردة، الشديدة الهبوب، التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية، فلم تبق منهم أحداً بل تتبعتهم، حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال، والغيران‏.‏

فتلفهم، وتخرجهم، وتهلكهم، وتدمر عليهم البيوت المحكمة، والقصور المشيدة، فكما منوا بقوتهم وشدتهم، وقالوا من أشد منا، قوة سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة، وأقدر عليهم وهو الريح العقيم‏.‏

ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الأمر سحابة، ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم، فأرسلها الله عليهم شرراً وناراً، كما ذكره غير واحد‏.‏

ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين، وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشد ما يكون من العذاب، بالأشياء المختلفة المتضادة مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون، والله أعلم‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدثنا ابن فضل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها، إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها، قالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا، فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الطبراني، عن عبدان بن أحمد، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما فتح الله على عاد من الريح الأمثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر، فلما رآها أهل الحضر قالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا‏.‏ وكان أهل البوادي فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ عتت على خزائنها حتى خرجت من خلال الأبواب‏.‏ قلت‏:‏ وقال غيره خرجت بغير حساب‏.‏

والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر‏.‏ ثم اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب، والله أعلم‏.‏

وظاهر الآية‏:‏ أنهم رأوا عارضاً، والمفهوم منه لمعة السحاب، كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري، إن جعلناه مفسراً لهذه القصة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 149‏)‏

وأصرح منه في ذلك، ما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏، حيث قال‏:‏ حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب قال‏:‏ سمعت ابن جريج يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وإذا عببت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه‏.‏ فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏‏)‏‏)‏‏.‏

رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث ابن جريج‏.‏

طريق أخرى، قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو وهو ابن الحارث، أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم‏.‏

وقالت‏:‏ كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت‏:‏ يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم نوح بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا‏)‏‏)‏‏.‏

فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين، كما أشرنا إليه أولاً، فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الأحقاف خبراً عن قوم عاد الثانية، وتكون بقية السياقات في القرآن خبراً عن عاد الأولى، والله أعلم بالصواب‏.‏

وهكذا رواه مسلم، عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري، وأبو داود من حديث ابن وهب‏.‏

وقدمنا حج هود عليه السلام، عند ذكر حج نوح عليه السلام‏.‏

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن‏.‏ وذكر آخرون أنه بدمشق وبجامعها مكان في حائطه القبلي، يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 150‏)‏

 قصة صالح نبي ثمود عليه السلام

وهم قبيلة مشهورة يقال ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عابر بن ارم بن سام بن نوح، وكانوا عرباً من العارية يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وقد مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، كما سيأتي بيانه

وكانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنام كأولئك، فبعث الله فيهم رجلاً منهم، وهو عبد الله ورسوله‏:‏ صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخلعوا الأصنام والأنداد، ولا يشركوا به شيئاً، فآمنت به طائفة منهم، وكفر جمهورهم، ونالوا منه بالمقال والفعال وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر‏.‏

كما قال تعالى في سورة الأعراف‏:‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73-79‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة هود‏:‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِثَمُودَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61-67‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 151‏)‏

وقال تعالى في سورة الحجر‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 80-84‏]‏‏.‏

وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 141-159‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة النمل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 45-53‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة حم السجدة‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17-18‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة اقتربت‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 23-32‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11-15‏]‏‏.‏

وكثيراً ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود، كما في سورة براءة وإبراهيم، والفرقان، وسورة ‏(‏ص‏)‏ وسورة ‏(‏ق‏)‏ والنجم، والفجر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 152‏)‏

ويقال إن هاتين الأمتين لا يعرف خبرهما أهل الكتاب، وليس لهما ذكر في كتابهم التوراة، ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما‏.‏ كما قال تعالى في سورة إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 8-9‏]‏ الآية‏.‏

الظاهر أن هذا من تمام كلام موسى مع قومه، ولكن لما كان هاتان الأمتان من العرب، لم يضبطوا خبرهما جيداً ولا اعتنوا بحفظه، وإن كان خبرهما كان مشهوراً في زمان موسى عليه السلام، وقد تكلمنا على هذا كله في التفسير متقصياً، ولله الحمد والمنة‏.‏

والمقصود الآن ذكر قصتهم، وما كان من أمرهم، وكيف نجى الله نبيه صالحاً عليه السلام، ومن آمن به، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم، وعتوهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام‏.‏

قد قدمنا أنهم كانوا عرباً وكانوا بعد عاد، ولم يعتبروا بما كان من أمرهم، ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام‏:‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73-74‏]‏‏.‏

أي‏:‏ إنما جعلكم خلفاء من بعدهم، لتعتبروا بما كان أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم، وأباح لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور، وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين، أي‏:‏ حاذقين في صنعتها واتقانها وإحكامها، فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح، والعبادة له وحده لا شريك له، وإياكم ومخالفته، والعدول عن طاعته، فإن عاقبة ذلك وخيمة‏.‏

ولهذا وعظهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 146-148‏]‏‏.‏

أي‏:‏ متراكم، كثير، حسن، بهي، ناضج‏.‏

{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 149-152‏]‏‏.‏

وقال لهم أيضاً‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏‏.‏

أي‏:‏ هو الذي خلقكم، فأنشأكم من الأرض، وجعلكم عمارها‏:‏ أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا سواه‏.‏

{‏فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ أقلعوا عما أنتم فيه، وأقبلوا على عبادته فإنه يقبل منكم، ويتجاوز عنكم‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملاً قبل هذه المقالة، وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة، وترك ما كنا نعبده من الأنداد، والعدول عن دين الآباء والأجداد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 153‏)‏

ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فما تزيدونني غير تخسير فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 62 - 63‏]‏‏.‏

وهذا تلطف منه لهم في العبارة، ولين الجانب، وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير، أي‏:‏ فما ظنكم إن كان الأمر كما أقول لكم، وأدعوكم إليه، ماذا عذركم عند الله، وماذا يخلصكم بين يديه، وأنتم تطلبون مني أن أترك دعائكم إلى طاعته‏.‏

وأنا لا يمكنني هذا لأنه واجب علي، ولو تركته لما قدر أحد منكم، ولا من غيركم، أن يجيرني منه ولا ينصرني، فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، حتى يحكم الله بيني وبينكم‏.‏

وقالوا له أيضاً‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 153‏]‏ أي‏:‏ من المسحورين، يعنون مسحوراً لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده، وخلع ما سواه من الأنداد‏.‏ وهذا القول عليه الجمهور إن المراد بالمسحرين المسحورين‏.‏

وقيل‏:‏ من المسحرين، أي ممن له سحر، وهي الرئة‏.‏ كأنهم يقولون إنما أنت بشر له سحر‏.‏ والأول أظهر، لقولهم بعد هذا ‏{‏مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 155-156‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوماً في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم، وحذرهم، ووعظهم، وأمرهم، فقالوا له‏:‏

إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة، وأشاروا إلى صخرة هناك ناقة من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموها ونعتوها، وتعنتوا فيها، وأن تكون عشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا‏.‏

فقال لهم النبي صالح عليه السلام‏:‏ أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به‏.‏ قالوا‏:‏ نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عز وجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا‏.‏

فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفظر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا، أو على الصفة التي نعتوا، فلما عاينوها كذلك، رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم، وعنادهم‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَظَلَمُوا بِهَا‏}‏ أي‏:‏ جحدوا بها، ولم يتبعوا الحق بسببها أي‏:‏ أكثرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 154‏)‏

وكان رئيس الذين آمنوا‏:‏ جندع بن عمرو بن محلاه بن لبيد بن جواس‏.‏ وكان من رؤساهم، وهم بقية الأشراف بالإسلام، قصدهم ذؤاب بن عمر بن لبيد، والخباب صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلمس ودعا جندع ابن عمه شهاب بن خليفة، وكان من أشرافهم، فهمَّ بالإسلام، فنهاه أولئك فمال إليهم، فقال في ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة بن الذميل، رحمه الله‏:‏

وكانت عصبة من آل عمرو * إلى دين النبي دعوا شهابا

عزيز ثمود كلهم جميعا * فهمَّ بأن يجيب ولو أجابا

لأصبح صالح فينا عزيزاً * وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا

ولكن الغواة من آل حجر * تولوا بعد رشدهم ذآبا

ولهذا قال لهم صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 64‏]‏ أضافها لله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم، كقوله‏:‏ بيت الله، وعبد الله‏.‏

{‏لَكُمْ آيَةً‏}‏ أي‏:‏ دليلاً على صدق ما جئتكم به‏.‏

{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ‏}‏ فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم، ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوماً بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم، ويقال‏:‏ إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم‏}

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 27‏]‏ أي‏:‏ اختبار لهم أيؤمنون بها أم يكفرون‏؟‏ والله أعلم بما يفعلون‏.‏

{‏فَارْتَقِبْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ انتظر ما يكون من أمرهم، واصطبر على أذاهم فسيأتيك الخبر على جلية‏.‏

{‏وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 28‏]‏ فلما طال عليهم الحال هذا، اجتمع ملؤهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها، ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم‏:‏ قدار بن سالف بن جندع، وكان أحمر أزرق أصهب، وكان يقال إنه ولد زانية، ولد على فراش سالف وهو ابن رجل يقال له‏:‏ صبيان، وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم فلهذا نسب الفعل إلى جميعهم كلهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 155‏)‏

وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين‏:‏ أن امرأتين من ثمود، اسم إحداهما‏:‏ صدوق ابنة المحيا بن زهير بن المختار، وكانت ذات حسب ومال، وكانت تحت رجل من أسلم ففارقته، فدعت ابن عم لها يقال له‏:‏ مصرع بن مهرج بن المحيا، وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة‏.‏

واسم الأخرى‏:‏ عنيزة بنت غنيم بن مجلز، وتكنى أم عثمان، وكانت عجوزاً كافرة، لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو، أحد الرؤساء، فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة، فله أي بناتها شاء‏.‏

فانتدب هذان الشابان لعقرها، وسعوا في قومهم بذلك، فاستجاب لهم سبعة آخرون، فصاروا تسعة، وهم المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وسعوا في بقية القبيلة، وحسنوا لهم عقرها، فأجابوهم إلى ذلك، وطاوعوهم في ذلك، فانطلقوا يرصدون الناقة، فلما صدرت من وردها كمن لها مصرع فرماها بسهم، فانتظم عظم ساقها، وجاء النساء يزمرن القبيلة في قتلها، وحسرن عن وجوههن ترغيباً لهم‏.‏

فابتدرهم قدار بن سالف فشد عليها بالسيف، فكشف عن عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها، ثم طعن في لبتها فنحرها، وانطلق سقيها وهو فصيلها، فصعد جبلاً منيعاً ودعا ثلاثاً‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن أنه قال‏:‏ يا رب أين أمي‏؟‏ ثم دخل في صخرة فغاب فيها‏.‏ ويقال‏:‏ بل اتبعوه فعقروه أيضاً

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29-30‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا أي‏:‏ احذروها‏.‏

{‏إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 14-15‏]‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هاشم - هو أبو عزرة - عن أبيه عبد الله بن زمعة قال‏:‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة، وذكر الذي عقرها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏‏{‏إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ انبعث لها رجل من عارم، عزيز منيع في رهطه، مثل أبي زمعة‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من حديث هشام بن عارم، أي شهم عزيز، أي رئيس منيع أي مطاع في قومه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 156‏)‏

وقال محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن محمد بن خيثم، عن محمد بن كعب، عن محمد بن خيثم، عن يزيد عن عمار بن ياسر قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أحدثك بأشقى الناس‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رجلان أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه - يعني لحيته‏)‏‏)‏‏.‏

رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏‏.‏ فجمعوا في كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه‏:‏

منها‏:‏ أنهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الأكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية‏.‏

ومنها‏:‏ أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ الشرط عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ‏}‏ وفي آية ‏{‏عَظِيْمٌ‏}‏ وفي الأخرى ‏{‏أَلِيمٌ‏}‏ والكل حق‏.‏

والثاني‏:‏ استعجالهم على ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه، وهم يعلمون ذلك علماً جازماً، ولكن حملهم الكفر والضلال، والعناد على استبعاد الحق، ووقوع العذاب بهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏وذكروا أنهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف لعنه الله، فعرقبها فسقطت إلى الأرض، ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها، فلما عاين ذلك سقيها - وهو ولدها - شرد عنهم، فعلا أعلى الجبل هناك، ورغا ثلاث مرات‏.‏

فلهذا قال لهم صالح‏:‏ ‏{‏تمتعوا في داركم ثلاثة أيام‏}‏ أي‏:‏ غير يومهم ذلك، فلم يصدقوه أيضاً في هذا الوعد الأكيد، بل لمـّا أمسوا همّوا بقتله، وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة‏.‏

{‏قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 48‏]‏‏.‏

أي‏:‏ لنكبسنه في داره مع أهله، فلنقتلنه ثم نجحدن قتله، وننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه‏.‏

ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 50-53‏]‏‏.‏

وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم، سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم، وأصبحت ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النظرة، ووجوههم مصفرة كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما أمسوا نادوا بأجمعهم‏:‏ ألا قد مضى يوم من الأجل‏.‏

ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة ووجوههم‏!‏ محمرة، فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الأجل‏.‏

ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع، وهو يوم السبت، ووجوههم مسودة، فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى الأجل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 157‏)‏

فلما كان صبيحة يوم الأحد، تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينظرون ماذا يحل بهم من العذاب، والنكال، والنقمة، لا يدرون كيف يفعل بهم، ولا من أي جهة يأتيهم العذاب‏.‏

فلما أشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أرواح فيها، ولا حراك بها‏.‏

قالوا ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة، واسمها كلبة - بنت السلق - ويقال لها‏:‏ الذريعة، وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام، فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حياً من العرب فأخبرتهم بما رأت، وما حل بقومها واستسقتهم ماء، فلما شربت ماتت‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء‏.‏

{‏أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِثَمُودَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 68‏]‏ أي‏:‏ نادى عليهم لسان القدر بهذا‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها‏.‏

وكانت تشرب ماءهم يوماً، ويشربون لبنها يوماً، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ من هو يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث على شرط مسلم، وليس هو في شيء من الكتب الستة، والله أعلم‏.‏

وقد قال عبد الرزاق أيضاً‏:‏ قال معمر، أخبرني إسماعيل بن أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتدرون من هذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ههنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ قال معمر‏:‏ قال الزهري‏:‏ أبو رغال أبو ثقيف‏.‏

هذا مرسل من هذا الوجه، وقد جاء من وجه آخر متصلاً كما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمرو يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إن هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف؛ وكان من ثمود؛ وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 158‏)‏

وهكذا رواه أبو داود، من طريق محمد بن إسحاق به‏.‏

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله‏:‏ هذا حديث حسن عزيز‏.‏

قلت‏:‏ تفرد به بجير بن أبي بجير هذا ولا يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن أمية‏.‏

قال شيخنا‏:‏ فيحتمل أنه وهم في رفعه، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ لكن في المرسل الذي قبله، وفي حديث جابر أيضاً شاهد له، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 79‏]‏ إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم، وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلاً لهم‏:‏

‏{‏يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني، وحرصت على ذلك بقولي، وفعلي، ونيتي‏.‏

{‏وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ لم تكن سجاياكم تقبل الحق، ولا تريده، فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم، المستمر بكم، المتصل إلى الأبد، وليس لي فيكم حيلة، ولا لي بالدفع عنكم يدان، والذي وجب عليّ من أداء الرسالة، والنصح لكم، قد فعلته وبذلته لكم، ولكن الله يفعل ما يريد‏.‏

وهكذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، بعد ثلاث ليال وقف عليهم، وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل فقال‏:‏

‏(‏‏(‏يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً‏؟‏ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال لهم فيما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له عمر‏:‏ يا رسول الله تخاطب أقواماً قد جيفوا‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون‏)‏‏)‏‏.‏

وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله‏.‏

ويقال‏:‏ إن صالحاً عليه السلام انتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال‏:‏

‏(‏‏(‏يا أبا بكر أي واد هذا‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ وادي عسفان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد مر به هود وصالح عليهما السلام، على بكرات خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون يحجون البيت العتيق‏)‏‏)‏ إسناد حسن‏.‏

وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام من رواية الطبراني، وفيه نوح، وهود، وإبراهيم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 159‏)‏

 مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏

لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا القدور، فأمرهم رسول الله فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد أيضاً‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر‏:‏

‏(‏‏(‏لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من غير وجه‏.‏

وفي بعض الروايات‏:‏ أنه عليه السلام لما مر بمنازلهم، قنع رأسه، وأسرع راحلته، ونهى عن دخول منازلهم، إلا أن تكونوا باكين‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن لم تبكوا فتباكوا، خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏‏)‏ صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هرون، حدثنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كبشة الأنباري، عن أبيه - واسمه عمرو بن سعد، ويقال‏:‏ عامر بن سعد رضي الله عنه قال‏:‏

لما كان في غزوة تبوك، فسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس الصلاة جامعة، قال‏:‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره، وهو يقول‏:‏

‏(‏‏(‏ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

فناداه رجل تعجب منهم يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئاً، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

إسناد حسن ولم يخرجوه‏.‏

وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة، فكانوا يبنون البيوت من المدر، فتخرب قبل موت الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتاً في الجبال‏.‏ وذكروا أن صالحاً عليه السلام لما سألوه آية، فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة، أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها، وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء، وأخبرهم أنهم سيعقرونها، ويكون سبب هلاكهم ذلك‏.‏

وذكر لهم صفة عاقرها، وأنه أحمر أزرق أصهب، فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولوداً بهذه الصفة يقتلنه، فكانوا على ذلك دهراً طويلاً وانقرض جيل، وأتى جيل آخر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 160‏)‏

فلما كان في بعض الأعصار، خطب رئيس من رؤسائهم على ابنه بنت آخر مثله في الرياسة، فزوجه، فولد بينهما عاقر الناقة، وهو قدار بن سالف، فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجديه فيهم، فنشأ نشأة سريعة، فكان يشب في الجمعة كما يشب غيره في شهر، حتى كان من أمره أن خرج مطاعاً فيهم، رئيساً بينهم‏.‏

فسولت له نفسه عقر الناقة، واتبعه على ذلك ثمانية من أشرافهم، وهم التسعة الذين أرادوا قتل صالح عليه السلام‏.‏ فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة، وبلغ ذلك صالحاً عليه السلام، جاءهم باكياً عليها، فتلقوه يعتذرون إليه، ويقولون‏:‏ إن هذا لم يقع عن ملأ منا، وإنما فعل هذا هؤلاء الأحداث فينا‏.‏

فيقال‏:‏ إنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضاً عنها، فذهبوا وراءه، فصعد جبلاً هناك، فلما تصاعدوا فيه وراءه، تعالى الجبل حتى ارتفع فلا يناله الطير، وبكى الفصيل حتى سالت دموعه‏.‏ ثم استقبل صالحاً عليه السلام، ودعا ثلاث، فعندها قال صالح‏:‏

تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وذلك وعد غير مكذوب، وأخبرهم أنهم يصبحون من غدهم صفراً، ثم تحمر وجوههم في الثاني، وفي اليوم الثالث تسود وجوههم، فلما كان في اليوم الرابع، أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة فأخذتهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين‏.‏

وفي بعض هذا السياق نظر، ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم، كما قدمنا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏